فصل: الملك الظاهر أحب أولاد أبيه إليه

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة **


وأما الحارث بن عوف بن أبي حارثة صاحب الحمالة فهو الذي حمل الدماء بين عبس وذبيان وشاركه في الحمالة خارجة بن سنان أخو هرم بن سنان‏.‏

وفيهما قال زهير بن أبي سلمى المزني قصائد كثيرة منها قوله‏:‏ وهل ينبت الخطي إلا وشيجه وتغرس إلا في منابتها النخل هذا آخر ما ذكره في المدرج وكان قد قدمه إلى الملك المعظم شرف الدين عيسى بن الملك العادل صاحب دمشق وسمعه عليه هو وولده الملك الناصر صلاح الدين أبو المفاخر داود بن الملك المعظم وكتب لهما بسماعهما عليه في آخر رجب سنة تسع عشرة وستمائة‏.‏

والله أعلم انتهى ما ذكرته من المدرج‏.‏

ثم قال‏:‏ وأقول‏:‏ ‏"‏ ذكر المؤرخون أن أسد الدين شيركوه لما مات استقرت الأمور بعده لصلاح الدين يوسف بن أيوب وتمهدت القواعد ومشى الحال على أحسن الأوضاع وبذل الأموال وملك قلوب الرجال وشكر نعمة الله تعالى عليه فتاب عن الخمر وأعرض عن أسباب اللهو وتقمص بقميص الجد والاجتهاد ولا زال على قدم الخير وما يقر به إلى الله تعالى إلى أن مات ‏"‏‏.‏

قال‏:‏ ‏"‏ وقال شيخنا ابن شداد - رحمه الله -‏:‏ قال صلاح الدين - رحمه الله -‏:‏ لما يسر الله تعالى بملك الديار المصرية علمت أن الله أراد فتح الساحل لأنه أوقع ذلك في نفسي ‏"‏‏.‏

قال‏:‏ ومن حين استقام له الأمر ما زال صلاح الدين يشن الغارات على الفرنج إلى أن ملك الكرك والشوبك وبلادهما وغشي الناس من سحائب الإفضال والإنعام أما لم يؤرخ عن غير تلك الأيام‏.‏

وهذا كله وهو وزير متابع للقوم ولكنه يقول بمذهب أهل السنة ‏"‏ غارس في البلاد أهل الفقه والعلم والتصوف والدين والناس يهرعون إليه من كل صوب ويفدون عليه من كل جانب وهو لا يخيب قاصدًا ولا يعدم وافدًا ‏"‏ إلى سنة خمس وستين وخمسمائة‏.‏

فلما عرف نور الدين استقرار أمر صلاح الدين بمصر أخذ حمص من نواب أسد الدين شيركوه وذلك في رجب سنة أربع وستين‏.‏

ولما علم الفرنج ما جرى من المسلمين وعساكرهم وما تم للسلطان من استقامة الأمر له بالبلاد المصرية علموا أنه يملك بلادهم ويخرب ديارهم ويقطع آثارهم فاجتمع الفرنج والروم جميعًا وقصدوا الديار المصرية ونزلوا دمياط ومعهم آلات الحصار وما يحتاج إليه ‏"‏‏.‏

قلت‏:‏ وهذه الواقعة التي ذكرناها في أول هذه الترجمة غير أننا نذكرها أيضًا من قول ابن خلكان لزيادات تأتي فيها‏.‏

قال‏:‏ ‏"‏ ولما سمع فرنج الشام ذلك اشتد أمرهم فسرقوا حصن عكا من المسلمين وأسروا صاحبها وكان مملوكًا لنور الدين محمود يقال له‏:‏ ‏"‏ خطلخ العلم دار ‏"‏ وذلك في شهر ربيع الآخر سنة خمس وستين‏.‏

ولما رأى نور الدين ظهور الفرنج ونزولهم على دمياط قصد شغل قلوبهم فنزل على الكرك فحاصرها في شعبان من السنة المذكورة فقصده فرنج الساحل فرحل عنها وقصد لقاءهم فلم يقووا له‏.‏

ثم بلغه وفاة مجد الدين بن الداية وكانت وفاته بحلب في أشهر رمضان سنة خمس وستين فاشتغل قلبه فإنه صاحب أمره‏.‏

وعاد يطلب الشام فبلغه أمر الزلازل بحلب التي أخربت البلاد وكانت في ثاني عشر شوال فسار يطلب حلب فبلغه موت أخيه قطب الدين مولود بالموصل وبلغه خبر موته وهو بتل باشر فسار من ليلته طالبًا لبلاد الموصل‏.‏

ودام صلاح الدين في قتال الفرنج بدمياط إلى أن رحلوا عنها خائبين ‏"‏‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ والذي ذكره شيخنا عز الدين بن الأثير‏:‏ أما كيفية ولاية صلاح الدين فإن جماعة من الأمراء النورية الذين كانوا بمصر طلبوا التقدم على العساكر وولاية الوزارة ‏"‏ يعني بعد موت أسد الدين شيركوه ‏"‏‏:‏ منهم الأمير عين الدولة الياروقي وقطب الدين خسرو بن تليل وهو ابن أخي أبي الهيجاء الهدباني الذي كان صاحب إربل‏.‏

قلت‏:‏ وهو صاحب المدرسة القطبية بالقاهرة ومنهم سيف الدين علي بن أحمد الهكاري وجده كان صاحب القلاع الهكارية‏.‏

قلت‏:‏ هو المعروف بالمشطوب - ولوالده أحمد ترجمة في تاريخنا ‏"‏ المنهل الصافي والمستوفي بعد الوافي ‏"‏ قال‏:‏ ومنهم شهاب الدين محمود الحارمي وهو خال صلاح الدين وكل واحد من هؤلاء قد لحظها لنفسه أو قد جمع ليغالب عليها فأرسل العاضد صاحب مصر إلى صلاح الدين يأمره بالحضور إلى قصره ليخلع عليه خلعة الوزارة ويوليه الأمر بعد عمه‏.‏

وكان الذي حمل العاضد على تولية صلاح الدين ضعف صلاح الدين فإنه ظن أنه إذا ولى صلاح الدين وليس له عسكر ولا رجال كان في ولايته مستضعفًا يحكم عليه ولا يقدر على المخالفة وأنه يضع على العساكر الشافي من يستميلهم ‏"‏ إليه ‏"‏ فإذا صار معه البعض أخرج الباقين وتعود البلاد إليه وعنده من العساكر الشامية من يحميها من الفرنج ونور الدين‏.‏

والقصة مشهورة ‏"‏ أردت عمرًا وأراد الله خارجة ‏"‏‏.‏

فامتنع صلاح الدين وضعفت نفسه عن هذا المقام فألزمه العاضد وأخذ كارهًا إن الله ليعجب من قوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل‏.‏

فلما حضر في القصر خلع عليه خلعة الوزارة‏:‏ الجبة والعمامة وغيرهما ولقب بالملك الناصر وعاد إلى دار عمه أسد الدين شيركوه وأقام بها ولم يلتفت إليه أحد من أولئك الأمراء الذين يريدون الأمر لأنفسهم ولا خدموه‏.‏

وكان الفقيه ضياء الدين عيسى الهكاري معه فسعى مع سيف الدين علي بن أحمد حتى أماله إليه وقال له‏:‏ إن هذا الأمر لا يصل إليك مع وجود عين الدولة والحارمي وابن تليل فمال إلى صلاح الدين‏.‏

ثم قصد شهاب الدين الحارمي وقال له‏:‏ إن هذا صلاح الدين هو ابن أختك وملكه لك وقد استقام له الأمر فلا تكن أول من يسعى في إخراجه عنه أولًا يصل إليك ولم يزل به حتى أحضره أيضًا عنه وحلفه له‏.‏

ثم عدل إلى قطب الدين وقال له‏:‏ إن صلاح الدين قد أطاعه الناس ولم يبق غيرك وغير الياروقي وعلى كل حال فيجمع بينك وبين صلاح الدين أن أصله من الأكراد ووعده وزاد في إقطاعه فأطاع صلاح الدين‏.‏

ثم عدل إلى عين الدولة الياروقي وكان أكبر الجماعة وأكثرهم جمعًا فاجتمع به فلم ينفع فيه رقاه ولا نفذ فيه سحره وقال‏:‏ ‏"‏ أنا لا أخدم يوسف أبدًا ‏"‏ وعاد إلى نور الدين محمود ومعه غيره‏.‏

فأنكر عليهم نور الدين فراقه وقد فات الأمر ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا‏.‏

وثبتت قدم صلاح الدين ورسخ ملكه وهو نائب عن الملك العادل نور الدين والخطبة لنور الدين في البلاد كلها ولا يتصرفون إلا عن أمره‏.‏

وكان نور الدين يكاتب صلاح الدين بالأمير الأسفهسالار ويكتب علامته في الكتب تعظيمًا أن يكتب اسمه وكان لا يفرده بمكاتبة بل يكتب‏:‏ ‏"‏ الأمير الأسفهسالار صلاح الدين وكافة الأمراء بالديار المصرية يفعلون كذا وكذا ‏"‏‏.‏

واستمال صلاح الدين قلوب الناس وبذل الأموال مما كان أسد الدين قد جمعه فمال الناس إليه وأحبوه وقويت نفسه على القيام بهذا الأمر والثبات فيه وضعف أمر العاضد وكان العاضد كالباحث عن حتفه بظلفه ‏"‏‏.‏

قال ابن الأثير في تاريخه الكبير‏:‏ قد اعتبرت التواريخ ورأيت كثيرًا من التواريخ الإسلامية فرأيت كثيرًا ممن يبتدئ الملك تنتقل الدولة عن صلبه إلى بعض أهله وأقاربه‏:‏ منهم في أول الإسلام معاوية بن أبي سفيان أول من ملك من أهل بيته فانتقل الملك عن أعقابه إلى بني مروان من بني عمه‏.‏

ثم من بعده السفاح أول من ملك من ملوك بني العباس انتقل الملك عن أعقابه إلى أخيه أبي جعفر المنصور‏.‏

ثم السامانية أول من ملك منهم نصر بن أحمد فانتقل الملك عنه إلى أخيه إسماعيل بن أحمد وأعقابه‏.‏

ثم يعقوب ابن الليث الضفار أول من ملك من أهل بيته فانتقل الملك عنه إلى أخيه عمرو وأعقابه‏.‏

ثم عماد الدولة بن بويه أول من ملك من أهل بيته ثم انتقل الملك عنه إلى أخويه‏:‏ ركن الدولة ومعز الدولة‏.‏

ثم السلجوقية أول من ملك منهم طغرلبك‏.‏

ثم انتقل الملك إلى أولاد أخيه داود‏.‏

ثم هذا شيركوه كما ذكرنا انتقل الملك عنه إلى ولد أخيه نجم الدين أيوب‏.‏

ولولا خوف الإطالة لذكرنا أكثر من هذا‏.‏

والذي أظنه السبب في ذلك أن الذي يكون أول دولة يكثر القتل فيأخذ الملك وقلوب من كان فيه متعلقة به فلهذا يحرم الله تعالى أعقابه ويفعل ذلك لأجلهم عقوبة له انتهى‏.‏

قلت‏:‏ وما ذكره ابن الأثير من انتقال الملك من عقب من يلي الملك أولا إلى أقاربه هو بعكس ما وقع لخلفاء مصر بني عبيد فإنه لم يل الخلافة منهم أحد بعد أخيه من أولهم المعز إلى آخرهم العاضد‏.‏

قلت‏:‏ ونادرة أخرى وقعت لخليفة زماننا هذا فإنه خامس أخ ولي الخلافة بعد إخوته وهو أمير المؤمنين المستنجد بالله يوسف وهم خمسة إخوة من أولاد المتوكل كل منهم ولي الخلافة‏:‏ وأولهم المستعين بالله العباسي الذي تسلطن بعد خلع الملك الناصر فرج بن برقوق سليمان ثم من بعده القائم حمزة ثم يوسف هذا خليفة زماننا‏.‏

وأكثر من ولي من بني أمية أربعة من أولاد عبد الملك بن مروان‏:‏ وهم الوليد وسليمان ويزيد وهشام قيل‏:‏ إن عبد الملك رأى في نومه أنه بال في محراب النبي صلى الله عليه وسلم أربع بولات فأوله المعبرون بأنه يلي الخلافة من ولده لصلبه أربعة فكان كذلك‏.‏

وأما ثلاثة الإخوة‏:‏ فالأمين محمد والمأمون عبد الله والمعتصم محمد أولاد الرشيد هارون‏.‏

ثم وقع ذلك أيضًا لبني العباس في أولاد المتوكل جعفر ولي من أولاده ثلاثة‏:‏ المنتصر والمعتز والمعتمد‏.‏

ثم وقع ذلك أيضًا للمعتضد ولي من أولاده ثلاثة‏:‏ وهم المكتفي علي والمقتدر جعفر والقاهر محمد‏.‏

ثم وقع ذلك للمقتدر جعفرة ولي من أولاده ثلاثة‏:‏ الراضي والمتقي والمطيع‏.‏

ونادرة أخرى قيل‏:‏ إن المستنجد بن المقتفي رأى في حياة والده في منامه كأن ملكًا نزل من السماء فكتب في كفه أربع خاءات معجمات فعبروه أنه يلي الخلافة سنة خمس وخمسين وخمسمائة فكان كذلك‏.‏

وقد خرجنا عن المقصود ونعود إلى ذكر صلاح الدين‏.‏

ثم ذكر ابن الأثير شيئًا عن أحوال صلاح الدين إلى أن قال‏:‏ وتوفي العاضد وجلس صلاح الدين للعزاء واستولى على قصره وجميع ما فيه فكان قد رتب فيه قبل وفاة العاضد بهاء الدين قراقوش وهو خصي يحفظه فحفظ ما فيه حتى تسلمه صلاح الدين ونقل صلاح الدين أهله إلى مكان منفرد ووكل بهم من يحفظهم وجعل أولاده وعمومته وأبناءه في إيوان بالقصر وأخرج من كان فيه من العبيد والإماء فأعتق البعض ووهب البعض وأخلى القصر من سكانه وأهله‏.‏

فسبحان من لا يزول ملكه قال‏:‏ ولما استولى صلاح الدين على القصر وأمواله وذخائره اختار منه ما أراد ووهب أهله وأمراءه وباع منه كثيرًا وكان فيه من الجواهر النفيسة ما لم يكن عند ملك من الملوك‏.‏

قال ابن الأثير‏:‏ ولما وصل الخبر إلى الإمام المستضيئ بأمر الله أبي محمد الحسن بن الإمام المستنجد وهو والد الإمام الناصر لدين الله بما تجدد من أمر مصر وعود الخطبة والسكة بها باسمه بعد انقطاعها بمصر هذه المدة الطويلة عمل أبو الفتح محمد سبط ابن التعاويذي قصيدة طنانة مدح بها المستضيئ وذكر هذا الفتوح المتجدد له وفتوح بلاد اليمن وهلاك الخارجي بها الذي سمى نفسه المهدي‏.‏

نذكر في آخر ترجمته أمر القصيدة التي نظمها ابن التعاويذي من كلام ابن خلكان وغيرها إن شاء الله تعالى‏.‏

وكان صلاح الدين قد أرسل له من ذخائر مصر وأسلاب المصريين شيئًا كثيرًا‏.‏

ثم ذكر ابن الأثير فصلًا في سنة سبع وستين وخمسمائة يتضمن حصول الوحشة بين نور الدين الشهيد وبين صلاح الدين باطنًا فقال‏:‏ ‏"‏ في هذه السنة جرت أمور أوجبت تأثر نور الدين من صلاح الدين ولم يظهر ذلك‏.‏

وكان سببه أن صلاح الدين سار عن مصر في صفر منها إلى بلاد الفرنج ونازل حصن الشوبك وبينه وبين الكرك يوم وحصره وضيق على من به من الفرنج وأدام القتال فطلبوا الأمان واستمهلوه عشرة أيام فأجابهم إلى ذلك‏.‏

فلما سمع نور الدين ما فعله صلاح الدين سار من دمشق قاصدًا بلاد الفرنج ليدخل إليها من جهة أخرى فقيل لصلاح الدين‏:‏ إن دخل نور الدين إلى بلاد الفرنج وهم على هذه الحال - أنت من جانب ونور الدين من جانب - ملكها ومتى زال ملك الفرنج عن الطريق لم يبق لك بديار مصر مقام مع نور الدين ومتى جاء نور الدين إليك وأنت هاهنا فلا بذلك من الاجتماع به وحينئذٍ يكون هو المتحكم فيك إن شاء تركك وإن شاء عزلك ولا تقدر على الامتناع عليه وحينئذ المصلحة الرجوع إلى مصر‏.‏

فرحل عن الشوبك عائدًا إلى مصر ‏"‏ ولم يأخذه من الفرنج ‏"‏‏.‏

وكتب إلى نور الدين يعتذر باختلال الديار المصرية لأمور بلغته عن بعض شيعة العلوي وأنهم عازمون على الوثوب بها وأنه يخاف عليها من البعد عنها أن يقوم أهلها على من تخلف بها‏.‏

فلم يقبل نور الدين هذا الاعتذار منه وتغير عليه وعزم على الدخول إلى مصر وإخراجه عنها‏.‏

وظهر ذلك لصلاح الدين فجمع أهله وفيهم أبوه نجم الدين أيوب وخاله شهاب الدين الحارمي وسائر الأمراء وأعلمهم بما بلغه من عزم نور الدين وحركته إليه فاستشارهم فلم يجبه أحد منهم بكلمة فقام تقي الدين عمر ابن أخيه وقال‏:‏ إذا جاء قاتلناه ومنعناه عن البلاد ووافقه غيره من أهله فشتمهم نجم الدين أيوب وأنكر ذلك واستعظمه وقال لصلاح الدين‏:‏ أنا أبوك وهذا شهاب الدين خالك ونحن أكثر محبة لك من جميع من ترى والله لو رأيت أنا وخالك نور الدين لم يمكنا إلا أن نقبل الأرض بين يديه ولو أمرنا أن نضرب عنقك لفعلنا فإذا كنا نحن هكذا فما ظنك بغيرنا‏!‏ وكل من ترى من الأمراء لو رأى نور الدين وحده لم يتجاسروا من الثبات على سروجهم‏.‏

ثم قال‏:‏ وهذه البلاد له ونحن مماليكه ونوابه فيها فإن أراد غير ذلك سمعنا وأطعنا والرأي أن تكتب إليه وتقول‏:‏ بلغني أنك تريد الحركة لأجل البلاد فأي حاجة إلى هذا‏!‏ يرسل المولى نجابًا يضع في رقبتي منديلًا ويأخذني إليك فما هاهنا من يمتنع عليك وقام الأمراء وتفرقوا‏.‏

فلما خلا نجم الدين أيوب بابنه صلاح الدين قال له‏:‏ يا بني بأي عقل قلت هذا‏!‏ أما علمت أن نور الدين متى سمع عزمنا على منعه ومحاربته جعلنا أهم الوجوه عنده وحينئذ لا نقوى به وإذا بلغه طاعتنا له تركنا واشتغل بغيرنا والأقدار تعمل عملها والله لو أراد نور الدين قصبة من قصب السكر لقاتلته أنا عليها حتى أمنعه أو أقتل‏.‏

ففعل صلاح الدين ما أشار به والده عليه فترك نور الدين قصده واشتغل بغيره فكان الأمر كما ظنه أيوب‏.‏

وتوفي نور الدين ولم يقصده‏.‏

وملك صلاح الدين البلاد وكان هذا من أصوب الآراء وأحسنها‏.‏

انتهى كلام ابن الأثير باختصار‏.‏

قال ابن شداد‏:‏ ولم يزل صلاح الدين في نشر الإحسان وإفاضة النعم على الناس إلى سنة ثمان وستين وخمسمائة فعند ذلك خرج بالعسكر يريد بلاد الكرك والشوبك وإنما بدأ بها لأنها كانت أقرب إليه وكانت على الطريق تمنع من يقصد الديار المصرية وكان لا يمكن أن تعبر قافلة حتى يخرج هو بنفسه يعبرها فأراد توسيع الطريق وتسهيلها فحاصرها في هذه السنة وجرى بينه وبين الفرنج وقعات وعاد إلى مصر ولم يظفر منها بشيء‏.‏

ولما عاد بلغه خبر وفاة والده نجم الدين قبل وصوله إليه‏.‏

قال‏:‏ ولما كانت سنة تسع وستين رأى قوة عسكره وكثرة دمعه وكان بلغه أن باليمن إنسانًا استولى عليها وملك حصونها وكان يسمى عبد النبي بن مهدي فأرسل أخاه توران شاه فقتله وأخذ البلاد منه‏.‏

ثم مات الملك العادل نور الدين محمود صاحب دمشق في سنة تسع وستين وخمسمائة على ما سيأتي ذكره في الوفيات‏.‏

ثم بلغ صلاح الدين أن إنسانًا يقال له الكنز ‏"‏ جمع بأسوان خلقًا كثيرًا من السودان وزعم أنه يعيد الدولة العبيدية المصرية‏.‏

وكان أهل مصر يؤثرون عودهم وانضافوا إليه فسير صلاح الدين إليه جيشًا كثيفًا وجعل مقدمه أخاه الملك العادل فساروا والتقوا به وكسروه في السابع من صفر سنة سبعين وخمسمائة‏.‏

ثم بعد ذلك استقرت له قواعد الملك‏.‏

وكان نور الدين محمود قد خلف ولده الملك الصالح إسماعيل وكان بدمشق عند وفاة أبيه‏.‏

وكان بحلب شمس الدين علي بن الداية وكان ابن الداية حدث نفسه بأمور فسار الملك الصالح من دمشق إلى حلب فوصل إلى ظاهرها في المحرم سنة سبعين ومعه سابق الدين فخرج بدر الدين حسن بن الداية فقبض على سابق الدين‏.‏

ولما دخل الملك الصالح قلعة حلب قبض على شمس الدين علي بن الداية وعلى أخيه بدر الدين حسن المذكور وأودع الثلاثة السجن‏.‏

وفي ذلك اليوم قتل أبو الفضل بن الخشاب لفتنة جرت بحلب وقيل‏:‏ بل قتل قبل القبض على أولاد الداية بيوم لأنهم تولوا تدبير ذلك‏.‏

ثم إن صلاح الدين بعد وفاة نور الدين علم أن ولده الملك الصالح صبي لا يستقل بالأمر ولا ينهض بأعباء الملك واختلفت الأحوال بالشام‏.‏

وكاتب شمس الدين محمد بن عبد الملك بن المقدم صلاح الدين فتجهز صلاح الدين من مصر في جيش كثيف وترك بالقاهرة من يحفظها وقصد دمشق مظهرًا أنه يتولى مصالح الملك الصالح فدخلها بالتسليم في يوم الثلاثاء سلخ شهر ربيع الآخر سنة سبعين وخمسمائة وتسلم قلعتها واجتمع الناس إليه وفرحوا به وانفق في ذلك اليوم مالًا جزيلًا وأظهر السرور بالدمشقيين وصعد القلعة ثم سار إلى حلب ونازل حمص وأخذ مدينتها في أول جمادى الأولى ولم يشتغل بقلعتها وتوجه إلى حلب ونازلها في يوم الجمعة سلخ جمادى الأولى من السنة وهي الوقعة الأولى‏.‏

ثم إن سيف الدين غازي بن قطب الدين مودود بن زنكي صاحب الموصل لما أحس بما جرى علم أن الرجل قد استفحل أمره وعظم شأنه فخاف إن غفل عنه استحوذ على البلاد واستقرت قدمه في الملك وتعدى الأمر إليه فأرسل عسكرًا وافرًا وجيشًا عظيمًا وقدم عليه أخاه عز الدين مسعود بن قطب الدين مودود وساروا يريدون لقاء صلاح الدين نجمة لابن عمه الملك الصالح ابن نور الدين ليردوا صلاح الدين عن البلاد‏.‏

فلما علم صلاح الدين ذلك رحل من حلب في مستهل رجب من السنة عائدًا إلى حماة ثم رجع إلى حمص وأخذ قلعتها‏.‏

ووصل عز الدين مسعود إلى حلب وأخذ معه عسكر ابن عمه الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين محمود وهو صاحب حلب يومئذ وخرجوا في جمع عظيم وما علم صلاح الدين بخروجهم حتى وافاهم على قرون حماة فراسلهم وراسلوه واجتهد صلاح الدين على أن يصالحوه فلم يصالحوه فرأى أن ضرب المصاف معهم ربما نالوا به غرضهم والقضاء يجري إلى أموره وهم لا يشعرون فتلاقوا فقضى الله تعالى أنهم انكسروا بين يديه وأسر جماعة منهم فمن عليهم وأطلقهم وذلك في تاسع عشر شهر رمضان من السنة عند قرون حماة‏.‏

ثم سار صلاح الدين عقيب كسرتهم ونزل على حلب وهي الدفعة الثانية فصالحوه على المعرة وكفر طاب وبارين‏.‏

ولما جرت هذه الواقعة كان سيف الدين غازي محاصرًا أخاه عماد الدين زنكي صاحب سنجار وعزم على أخذها منه لأنه كان قد انتمى إلى صلاح الدين وكان قد قارب أخذها‏.‏

فلما بلغه خبر هذه الواقعة وأن عسكره انكسر من صلاح الدين على قرون حماة خاف أن يبلغ أخاه عماد الدين الخبر فيشتد أمره ويقوى جأشه فراسله وصالحه‏.‏

ثم سار غازي من وقته إلى نصيبين واهتم بجمع العساكر والإنفاق فيها وسار إلى الفرات وعبر البيرة وخيم على الجانب الشامي وراسل ابن عمه الملك الصالح ابن الملك العادل نور الدين صاحب حلب حتى تستقر له قاعدة يصل إليها‏.‏

ثم إنه وصل إلى حلب وخرج ابن عمه الملك الصالح صاحب حلب إلى لقائه وأقام غازي على حلب مدة وصعد قلعتها جريدة ثم نزل وسار إلى تل السلطان وهي منزلة بين حلب وحماة ومعه جمع كبير‏.‏

وأرسل صلاح الدين إلى مصر وطلب عسكرها فوصل إليه منها جمع كبير فسار بهم صلاح الدين حتى نزل قرون حماة ثانيًا‏.‏

وتصافوا بكرة يوم الخميس العاشر من شوال سنة إحدى وسبعين وخمسمائة وجرى قتال عظيم وانكسرت ميسرة صلاح الدين من مظفر الدين بن زين الدين صاحب إربل فإنه كان على ميمنة سيف الدين غازي فحمل صلاح الدين بنفسه على عسكر سيف الدين غازي حملة شديدة فانكسر القوم وأسر منهم جماعة من كبار الأمراء فمن عليهم صلاح الدين وأطلقهم‏.‏

وعاد سيف الذين غازي إلى حلب فأخذ منها خزائنه وسار حتى عبر الفرات وترك ابن عمه الملك الصالح صاحب حلب بها وعاد إلى بلاده‏.‏

ومنع صلاح الدين من تتبع القوم ونزل في بقية اليوم في خيامهم فإنهم تركوا أثقالهم وانهزموا وفرق صلاح الدين الأطلاب ووهب الخزائن وأعطى خيمة سيف الدين غازي لابن أخيه عز الدين فرخشاه بن شاهنشاه بن أيوب أخي تقي الدين عمر صاحب حماة وكان فرخشاه صاحب بعلبك‏.‏

ثم سار صلاح الدين إلى منبج فتسلمها ثم سار إلى قلعة عزاز وحاصرها في رابع في القعدة سنة إحدى وسبعين وخمسمائة‏.‏

وبينما صلاح الدين بها وثب عليه جماعة من الإسماعيلية ‏"‏ أعني الفداوية ‏"‏ فنخاه الله منهم وظفر بهم‏.‏

وأقام عليها حتى أخذها في رابع عشر ذي الحجة من السنة‏.‏

ثم سار فنزل على حلب في سادس عشر ذي الحجة وأقام عليها مدة‏.‏

ثم رحل عنها بعد أن أخرجوا له ابنةً صغيرةً لنور الدين محمود فسألته عزاز فوهبها لها‏.‏

ثم عاد صلاح الدين إلى مصر ليتفقد أحوالها وكان مسيره إليها في شهر ربيع الأول سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة وكان أخوه شمس الدولة توران شاه بن أيوب قد وصل إليه من اليمن فاستخلفه بدمشق‏.‏

ثم بعد ذلك تأهب صلاح الدين للغزاة وخرج يطلب الساحل حتى وافى الفرنج على الرملة وذلك في أوائل جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة وكانت الكسرة على المسلمين في ذلك الوقت ولما انهزموا لم يكن لهم حصن قريب يأوون إليه فطلبوا جهة الديار المصرية وضلوا في الطريق وتبددوا وأسر منهم جماعة‏:‏ منهم الفقيه عيسى الهكاري‏.‏

وكان ذلك وهنًا عظيمًا جبره الله ووصل صلاح الدين إلى مصر ولم شعثه وشعث أصحابه من أثر كسرة الرملة ثم بلغه تخبط الشام فعاد إليه واهتم بالغزاة فوصله رسول صاحب الروم يلتمس الصلح ويتضرر من الأرمن فعزم على قصد بلاد ابن لاون يعني بلاد سيس الفاصلة بين حلب والروم من جهة الساحل لينصر قليج أرسلان عليه فتوجه صلاح الدين إليه واستدعى عسكر حلب لأنه كان في الصلح متى استدعاه حضر إليه يعني صلح صلاح الدين مع الملك الصالح صاحب حلب‏.‏

ثم دخل صلاح الدين بلاد ابن لاون وأخذ في طريقه حصنًا وأخربه ورغبوا إليه في الصلح فصالحهم ورجع عنهم‏.‏

ثم سأله قليج أرسلان في صلح الشرقيين بأسرهم يعني سيف الدين غازي وإخوته فأجاب إلى ذلك صلاح الدين وحلف في عاشر جمادى الأولى سنة ست وسبعين وخمسمائة ودخل في الصلح قليج أرسلان والمواصلة‏.‏

ثم عاد صلاح الدين بعد تمام الصلح إلى دمشق ثم منها إلى مصر‏.‏

فورد عليه الخبر بموت الملك الصالح ابن الملك العادل نور الدين محمود الشهيد بعد أن استحلف أمراء حلب وأجنادها قبل موته لابن عمه عز الدين مسعود صاحب الموصل وهو ابن عم قطب الدين مودود‏.‏

ولما بلغ عز الدين مسعودًا خبر موت ابن عمه الملك الصالح المذكور وأنه أوصى له بحلب بالحر إلى التوجه إليها خوفًا أن يسبقه صلاح الدين إليها فأخذها‏.‏

وكان أول قادم إليها مظفر الدين بن زين الدين صاحب إربل وكان إذ ذاك صاحب حران وهو مضاف إلى الموصل ووصلها مظفر الدين المذكور في ثالث شعبان من سنة سبع وسبعين‏.‏

وفي العشرين منه وصلها عز الدين مسعود وطلع إلى القلعة واستولى على ما فيها من الحواصل وتزوج بأم الملك الصالح في الخامس من شوال من السنة‏.‏

قال‏:‏ وحاصل الأمر أن عز الدين مسعودًا قايض أخاه عماد الدين زنكي صاحب سنجار عن حلب بسنجار وخرج عز الدين من حلب ودخلها عماد الدين زنكي فلما بلغ صلاح الدين ذلك توجه إليه وحاصره فلم يقدر عماد الدين على حفظ حلب وكان نزول صلاح الدين على حلب في السادس والعشرين من المحرم سنة سبع وسبعين وخمسمائة‏.‏

فتحدث عماد الدين زنكي مع الأمير حسام الدين طمان بن غازي في السر بما يفعله فأشار عليه أن يطلب من صلاح الدين بلادًا وينزل له عن حلب بشرط أن يكون له جميع ما في القلعة من الأموال فقال له عماد الدين‏:‏ وهذا كان في نفسي‏.‏

ثم اجتمع حسام الدين طمان بن غازي مع صلاح الدين في السر على تقرير القاعدة لذلك فأجابه صلاح الدين إلى ما طلب ووقع له بسنجار وخابور ونصيبين وسروج ووقع لطمان المذكور بالرقة لسفارته بينهما وحلف صلاح الدين على ذلك في سابع عشر صفر من السنة وكان صلاح الدين قد نزل قبل تاريخه على سنجار وأخذها في ثامن شهر رمضان من سنة ثمان وسبعين وأعطاها لابن أخيه تقي الدين عمر فلما جرى الصلح على هذا أخذها من عمر وأعطاها لعماد الدين المذكور‏.‏

وتسلم صلاح الدين قلعة حلب وصعد إليها في يوم الاثنين السابع والعشرين من صفر سنة تسع وسبعين وخمسمائة وأقام بها حتى رتب أمورها ثم رحل عنها في الثاني والعشرين من شهر ربيع الأخر من السنة وجعل فيها ولده الملك الظاهر وكان صبيًا وولى القلعة لسيف الدين يازكوج الأسدي وجعله يرتب مصالح ولده‏.‏

ثم سار صلاح الدين إلى دمشق وتوجه من دمشق لقصد محاصرة الكرك في الثالث من رجب من السنة وسير إلى أخيه الملك العادل وهو بمصر يستدعيه ليجتمع به على الكرك فسار إليه الملك العادل أبو بكر بجمع عظيم وجيش كبير واجتمع به على الكرك في رابع شعبان فلما بلغ الفرنج نزوله على الكرك حشدوا خلقًا عظيمًا وجاؤوا إلى الكرك ليكونوا من خارج قبالة عسكر المسلمين فخاف صلاح الدين على الديار المصرية فسير إليها ابن أخيه تقي الدين عمر ثم رحل صلاح الدين عن الكرك في سادس عشر شعبان من السنة واستصحب أخاه الملك العادل معه ودخل دمشق في الرابع والعشرين من شعبان من السنة وأعطى أخاه العادل حلب فتوجه إليها العادل ودخلها يوم الجمعة الثاني والعشرين من شهر رمضان من السنة‏.‏

وخرج الملك الظاهر ويازكوج من حلب ودخلا دمشق يوم الاثنين الثامن والعشرين من شوال من السنة‏.‏

وكان

 الملك الظاهر أحب أولاد أبيه إليه

لما فيه من الخلال الحميدة ولم يأخذ منه حلب إلا لمصلحة رآها أبوه صلاح الدين في ذلك الوقت‏.‏

وقيل‏:‏ إن الملك العادل أعطاه على أخذ حلب ثلاثمائة ألف دينار يستعين بها على الجهاد‏.‏

ثم إن صلاح الدين رأى أن عود الملك العادل إلى مصر وعود الملك الظاهر إلى حلب أصلح‏.‏

قيل‏:‏ إن علم الدين سليمان بن جندر كان هو السبب لذلك فإنه قال لصلاح الدين وكانت بينهما مؤانسة قبل أن يتملك البلاد وقد سايره يومًا وكان من أمراء حلب والملك العادل لا ينصفه وقدم عليه غيره وكان صلاح الدين قد مرض على حصار الموصل‏!‏ وحمل إلى حران وأشفى على الهلاك ولما عوفي ورجع إلى الشام واجتمعا في المسير قال له - وكان صلاح الدين قد أوصى لكل واحد من أولاده بشيء من البلاد -‏:‏ بأي رأي كنت تظن أن وصيتك تنفذ‏!‏ كأنك كنت خارجًا إلى الصيد ثم تعود فلا يخالفونك‏!‏ أما تستحي أن يكون الطائر أهدى منك إلى المصلحة قال صلاح الدين‏:‏ وكيف ذلك وهو يضحك قال‏:‏ إذا أراد الطائر أن يعمل عشًا لفراخه قصد أعالي الشجر ليحمي فراخه وأنت سلمت الحصون إلى أهلك وجعلت أولادك على الأرض هذه حلب - وهي أم البلاد - بيد أخيك وحماة بيد ابن أخيك تقي الدين عمر وحمص بيد ابن عمك أسد الدين وابنك الأفضل مع تقي الدين بمصر يخرجه متى شاء وابنك الآخر مع أخيك في خيمة يفعل به ما أراد فقال له صلاح الدين‏:‏ صدقت فأكتم هذا الأمر ثم أخذ حلب من أخيه العادل وأعادها إلى ابنه الملك الظاهر وأعطى العادل بعد ذلك حران والرها وميافارقين ليخرجه من الشام‏.‏

وفرق الشام على أولاده فكان ما كان‏.‏

وزوج السلطان صلاح الدين ولده الملك الظاهر بغازية خاتون ابنة أخيه الملك العادل المذكور‏.‏